فصل: الحالة الثّانية: الاضطرار إلى النّظر واللّمس للتّداوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


ضَرُورَة

التّعريف

1 - الضّرورة في اللّغة‏:‏ اسم من الاضطرار، والاضطرار‏:‏ الاحتياج الشّديد‏.‏ تقول‏:‏ حملتني الضّرورة على كذا وكذا، وقد اضطرّ فلان إلى كذا وكذا‏.‏

وعرّفها الجرجانيّ‏:‏ بأنّها النّازل ممّا لا مدفع له‏.‏

وهي عند الفقهاء‏:‏ بلوغ الإنسان حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطرّ للأكل واللّبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرّم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحاجة‏:‏

2 - الحاجة في اللّغة‏:‏ تطلق على الافتقار، وعلى ما يفتقر إليه‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هي - كما عرّفها الشّاطبيّ - ما يفتقر إليه من حيث التّوسعة، ورفع الضّيق المؤدّي - في الغالب - إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - على الجملة - الحرج والمشقّة‏.‏

قال الزّركشيّ وغيره‏:‏ والحاجة كالجائع الّذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنّه يكون في جهد ومشقّة وهذا لا يبيح المحرّم‏.‏

والفرق بين الحاجة والضّرورة، أنّ الحاجة وإن كانت حالة جهد ومشقّة فهي دون الضّرورة، ومرتبتها أدنى منها ولا يتأتّى بفقدها الهلاك‏.‏

ب - الحرج‏:‏

3 - الحرج في اللّغة‏:‏ بمعنى الضّيق، ويطلق عند الفقهاء على كلّ ما تسبّب في الضّيق، سواء أكان واقعاً على البدن أم على النّفس أم عليهما معاً‏.‏

والصّلة بين الضّرورة والحرج أنّ الضّرورة هي أعلى أنواع الحرج الموجبة للتّخفيف‏.‏

ج - العذر‏:‏

4 - العذر نوعان‏:‏ عامّ، وخاصّ‏.‏

والعذر العامّ‏:‏ هو الّذي يتعرّض له الشّخص غالباً في بعض الأحوال كفقد الماء للمسافر، فيسقط قضاء الصّلاة، وقد يكون نادراً، وهو إمّا أن يدوم كالحدث الدّائم والاستحاضة والسّلس ونحوه، فيسقط القضاء أيضاً، أمّا النّادر الّذي لا يدوم ولا بدل معه كفقد الطّهورين ونحوه، فيوجب القضاء عند بعض الفقهاء‏.‏

وأمّا العذر الخاصّ‏:‏ فهو ما يطرأ للإنسان أحياناً، كالانشغال بأمر ما عن أداء الصّلاة، فهذا يوجب القضاء‏.‏

والصّلة بين الضّرورة وبين العذر أنّ العذر نوع من المشقّة المخفّفة للأحكام الشّرعيّة، وهو أعمّ من الضّرورة‏.‏

د - الجائحة‏:‏

5- الجائحة في اللّغة‏:‏ الشّدّة، تجتاح المال من سنةً أو فتنة وهي مأخوذة من الجوح بمعنى الاستئصال والهلاك، يقال‏:‏ جاحتهم الجائحة واجتاحتهم، وجاح اللّه ماله وأجاحه بمعنىً‏:‏ أي أهلكه بالجائحة‏.‏

والجائحة قد تكون سبباً للضّرورة‏.‏

هـ – الإكراه‏:‏

6 – الإكراه لغةً‏:‏ حمل الغير على شيء لا يرضاه، يقال‏:‏ أكرهت فلاناً إكراهاً‏:‏ حملته على ما لا يحبّه ويرضاه‏.‏

وعرّفه البزدويّ بأنّه‏:‏ حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به‏.‏

‏(‏ر‏:‏ إكراه ف 1‏)‏‏.‏

وقد يؤدّي الإكراه إلى الضّرورة كالإكراه الملجئ‏.‏

الأدلّة الشّرعيّة على اعتبار الضّرورة في الأحكام

7 - الأحكام الشّرعيّة نوعان‏:‏

أحكام كلّيّة شرعت ابتداءً، ولا تختصّ ببعض المكلّفين من حيث هم مكلّفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض‏.‏

وأحكام شرعت لعذر شاقّ استثناءً من أصل كلّيّ يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه‏.‏

وقد ورد في الكتاب والسّنّة ما يدلّ على مشروعيّة العمل بالأحكام الاستثنائيّة بمقتضى الضّرورة، وتأيّد ذلك بمبدأي اليسر وانتفاء الحرج اللّذين هما صفتان أساسيّتان في دين الإسلام وشريعته‏.‏

أمّا القرآن الكريم ففيه عدّة آيات تدلّ على مشروعيّة العمل بمقتضى الضّرورة واعتبارها في الأحكام‏:‏

منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏‏.‏

فهاتان الآيتان، وغيرهما تبيّن تحريم تناول مطعومات معيّنة كالميتة ونحوها، كما أنّها تتضمّن استثناء حالة الضّرورة حفاظاً على النّفس من الهلاك، والاستثناء من التّحريم - كما قال البزدويّ - إباحة، إذ الكلام صار عبارةً عمّا وراء المستثنى، وقد كان مباحاً قبل التّحريم، فيبقى على ما كان في حالة الضّرورة‏.‏

وأمّا الأحاديث فكثيرة منها‏:‏

ما رواه أحمد عن أبي واقد اللّيثيّ أنّهم قالوا‏:‏ » يا رسول اللّه، إنّا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى يحلّ لنا الميتة‏؟‏ قال‏:‏ إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا، فشأنكم بها «‏.‏

وعن جابر بن سمرة‏:‏ » أنّ أهل بيت كانوا بالحرّة محتاجين قال‏:‏ فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم، فرخّص لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أكلها، قال‏:‏ فعصمتهم بقيّة شتائهم أو سنتهم «‏.‏

وقد دلّ الحديثان على أنّه يجوز للمضطرّ أن يتناول من الميتة ما يكفيه‏.‏

شروط تحقّق الضّرورة

8 - يشترط للأخذ بمقتضى الضّرورة ما يلي‏:‏

أ - أن تكون الضّرورة قائمةً لا منتظرةً، وتظهر هذه القاعدة في الفروع الفقهيّة المبنيّة على الرّخص منها‏:‏

يشترط الفقهاء لتحقّق الإكراه خوف المكره إيقاع ما هدّد به في الحال بغلبة ظنّه، وبناءً على هذا الشّرط فقول المكره ‏"‏ لأقتلنك غداً ‏"‏ ليس بإكراه‏.‏

قال الشّيخ عميرة‏:‏ لو كانت الحاجة غير ناجزة فهل يجوز الأخذ لما عساه يطرأ‏؟‏ الظّاهر لا، كاقتناء الكلب لما عساه يكون من الزّرع ونحوه‏.‏

يقول الشّاطبيّ‏:‏ الصّواب الوقوف مع أصل العزيمة، إلاّ في المشقّة المخلّة الفادحة فإنّ الصّبر أولى، ما لم يؤدّ ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصّبر، لأنّه لا يؤمر بالصّبر إلاّ من يطيقه، فأنت ترى بالاستقراء أنّ المشقّة الفادحة لا يلحق بها توهّمها، بل حكمها أخفّ بناءً على أنّ التّوهّم غير صادق في كثير من الأحوال فإذاً‏:‏ ليست المشقّة بحقيقيّة، والمشقّة الحقيقيّة هي العلّة الموضوعة للرّخصة فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم‏.‏

ب - ألاّ يكون لدفع الضّرورة وسيلة أخرى إلاّ مخالفة الأوامر والنّواهي الشّرعيّة قال أبو بكر الجصّاص عند تفسيره لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏‏:‏ معنى الضّرورة - هنا -‏:‏ هو خوف الضّرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل وقد انطوى تحته معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون غيرها موجوداً، ولكنّه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه، وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا‏.‏

ج - يجب على المضطرّ مراعاة قدر الضّرورة، لأنّ ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها، وتفريعاً على هذا الأصل قرّر جمهور الفقهاء أنّ المضطرّ لا يأكل من الميتة إلاّ قدر سدّ الرّمق‏.‏

د - يجب على المضطرّ أن يراعي عند دفع الضّرورة مبدأ درء الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، فمن أكره على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قتل يلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصّبر على القتل، لأنّ صبره على القتل أقلّ مفسدةً من إقدامه عليه، وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك، لقدرته على درء المفسدة، وإنّما قدّم درء القتل بالصّبر، لإجماع العلماء على تحريم القتل، واختلافهم في الاستسلام للقتل فوجب تقديم درء المفسدة المجمع على وجوب درئها على درء المفسدة المختلف في وجوب درئها‏.‏

هـ – ألاّ يقدم المضطرّ على فعل لا يحتمل الرّخصة بحال‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ الإكراه على المعاصي أنواع‏:‏

نوع يرخّص له فعله ويثاب على تركه، كإجراء كلمة الكفر، وشتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وترك الصّلاة، وكلّ ما يثبت بالكتاب‏.‏

ونوع يحرم فعله ويأثم بإتيانه كالزّنى وقتل مسلم، أو قطع عضوه، أو ضربه ضرباً متلفاً، أو شتمه أو أذيّته‏.‏

وللتّفصيل في أقسام الرّخصة والأحكام المتعلّقة بها ‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ رخصة‏)‏‏.‏

حالات الضّرورة

9 - بتتبّع عبارات الفقهاء والمفسّرين يتبيّن أنّ أهمّ حالات الضّرورة عبارة عن‏:‏

أ - الاضطرار إلى تناول المحرّم من طعام أو شراب‏.‏

ب - الاضطرار إلى النّظر واللّمس للتّداوي‏.‏

ج - الاضطرار إلى إتلاف نفس أو فعل فاحشة‏.‏

د - الاضطرار إلى أخذ مال الغير وإتلافه‏.‏

هـ- الاضطرار إلى قول الباطل‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ الاضطرار إلى تناول المحرّم من طعام أو شراب

10 - لا خلاف بين الفقهاء في إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطرّ، للأدلّة السّابقة‏.‏

إلاّ أنّهم اختلفوا في المقصود بإباحة الميتة، ومقدار ما يأكله المضطرّ من الميتة ونحوها، وتفصيل المحرّمات الّتي تبيحها الضّرورة وترتيبها عند التّعدّد، وأثر الضّرورة في رفع حرمة الميتة ونحوها، وفيما يلي تفصيل هذه المسائل الخلافيّة‏:‏

أ - الميتة‏:‏

إذا كان للمضطرّ أكل الميتة ونحوها في حالة الاضطرار، سواء كان هذا الاضطرار بجوع أو عطش في مخمصة، أو بإكراه من ظالم، فهل يجب عليه تناولها أم يجوز له الامتناع من الأكل حتّى يموت‏؟‏‏.‏

ذهب الحنفيّة – في ظاهر الرّواية – والمالكيّة والشّافعيّة – في أحد الوجهين – والحنابلة - على الصّحيح من المذهب – إلى أنّ المضطرّ يجب عليه أكل الميتة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الّذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتةً أو لحم خنزير أو دماً فلم يأكل ولم يشرب حتّى مات وهو يعلم أنّ ذلك يسعه كان آثماً، قال اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏، ولا شكّ أنّ الّذي يترك تناول الميتة ونحوها حتّى يموت يعتبر قاتلاً لنفسه ملقياً بها إلى التّهلكة، لأنّ الكفّ عن التّناول فعل منسوب إلى الإنسان، ولأنّه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللّه له، فلزمه كما لو كان معه طعام حلال‏.‏

وقال كلّ من الحنابلة والشّافعيّة - في وجه - وأبو يوسف - في رواية عنه - إنّ المضطرّ يباح له أكل الميتة، ولا يلزمه، فلو امتنع عن التّناول في حالة الضّرورة ومات‏.‏ فلا إثم ولا حرج عليه، لما روي عن عبد اللّه بن حذافة السّهميّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنّ طاغية الرّوم حبسه في بيع، وجعل معه خمراً ممزوجاً بماء ولحم خنزير مشويّ ثلاثة أيّام، فلم يأكل ولم يشرب، حتّى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته، فأخرجوه فقال‏:‏ قد كان اللّه أحلّه لي لأنّي مضطرّ ولكن لم أكن لأشمّتك بدين الإسلام‏.‏

ولأنّ إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه، كسائر الرّخص، ولأنّ له غرضاً في اجتناب النّجاسة والأخذ بالعزيمة وربّما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق، الحلال في الأصل من هذه الوجوه‏.‏

مقدار ما يأكله المضطرّ من الميتة ونحوها

اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ يباح له أكل ما يسدّ الرّمق ويأمن معه الموت، كما اتّفقوا على أنّه يحرم ما زاد على الشّبع، واختلفوا في الشّبع‏:‏

فذهب الحنفيّة والشّافعيّة - في الأظهر عندهم - والحنابلة - في أظهر الرّوايتين - وابن الماجشون، وابن حبيب من المالكيّة‏:‏ إلى أنّ المضطرّ لا يأكل من الميتة إلاّ قدر سدّ الرّمق، ولا يباح له الشّبع، لأنّ آية‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ دلّت على تحريم الميتة، واستثنت ما اضطرّ إليه، فإذا اندفعت الضّرورة لم يحلّ له الأكل للآية، يحقّقه أنّ بعد سدّ رمقه كحاله قبل أن يضطرّ، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا‏.‏

وقال المالكيّة على المعتمد عندهم، والشّافعيّة في قول، والحنابلة في الرّواية الثّانية‏:‏ إنّ المضطرّ يباح له الشّبع لإطلاق الآية، ولما روى جابر بن سمرة‏:‏ » أنّ رجلاً نزل الحرّة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته‏:‏ اسلخها حتّى نقدّد شحمها ولحمها ونأكله، فقال‏:‏ حتّى أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله فقال‏:‏ هل عندك غنىً يغنيك‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فكلوها « ولم يفرّق‏.‏

ولأنّ ما جاز سدّ الرّمق منه جاز الشّبع منه كالمباح، ولأنّ الضّرورة ترفع التّحريم فيعود مباحاً، ومقدار الضّرورة إنّما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتّى يجد‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يحتمل أن يفرّق بين ما إذا كانت الضّرورة مستمرّةً وبين ما إذا كانت مرجوّة الزّوال، فما كانت مستمرّةً كحالة الأعرابيّ الّذي سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاز الشّبع، لأنّه إذا اقتصر على سدّ الرّمق عادت الضّرورة إليه عن قرب، ولا يتمكّن من البعد مخافة الضّرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه، وربّما أدّى ذلك إلى تلفه، بخلاف الّتي ليست مستمرّةً فإنّه يرجو الغنى عنها بما يحلّ‏.‏

ب - ذبح الحيوان غير المأكول للضّرورة‏:‏

كلّ حيوان حيّ من الحيوانات الّتي لا تؤكل يحلّ للمضطرّ قتله بذبح أو بغير ذبح، للتّوصّل إلى أكله‏.‏

قال الجصّاص عند تفسيره لآيات الضّرورة‏:‏ ذكر اللّه تعالى الضّرورة في هذه الآيات، وأطلق الإباحة في بعضها، لوجود الضّرورة من غير شرط ولا صفة، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏ فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضّرورة في كلّ حال وجدت الضّرورة فيها‏.‏

ج - تناول ما حرّم من غير الحيوان‏:‏

تناول ما حرّم من غير الحيوان نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما حرّم لكونه يقتل الإنسان إذا تناوله كالسّموم، فإنّه لا تبيحه الضّرورة، لأنّ تناوله استعجال للموت، وقتل للنّفس، وهو من أكبر الكبائر‏.‏

والآخر‏:‏ ما حرّم لنجاسته ويمثّل له الفقهاء بالتّرياق المشتمل على خمر ولحوم حيّات‏.‏

‏(‏ر‏:‏ سمّ‏)‏‏.‏

د - شرب الخمر لضرورة العطش والغصص‏:‏

يجوز للمضطرّ شرب الخمر إن لم يجد غيرها لإساغة لقمة غصّ بها عند جمهور الفقهاء‏.‏ ويرى ابن عرفة من المالكيّة أنّ ضرورة الغصص تدرأ الحدّ ولا تمنع الحرمة‏.‏

وأمّا شرب الخمر لدفع العطش فعند الحنفيّة والشّافعيّة على القول المقابل للأصحّ أنّ من خاف على نفسه من العطش يباح له أن يشرب الخمر كما يباح للمضطرّ تناول الميتة والخنزير وقيّد الحنفيّة جواز شرب الخمر لضرورة العطش بقولهم‏:‏ إن كانت الخمر تردّ ذلك العطش‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة - على الأصحّ عندهم - إلى تحريم شرب الخمر لدفع العطش‏.‏

هـ – تناول المضطرّ لحم إنسان‏:‏

اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ إن لم يجد إلاّ آدميّاً حيّاً محقون الدّم لم يبح له قتله، ولا إتلاف عضو منه، مسلماً كان أو كافراً، لأنّه مثله، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه‏.‏ واختلفوا فيما إذا وجد آدميّاً معصوماً ميّتاً، فأجاز بعض الحنفيّة والشّافعيّة على أصحّ الطّريقين وأشهرهما أكله، لأنّ حرمة الحيّ أعظم‏.‏

ويرى المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة - في وجه - أنّ المضطرّ ليس له أكل ابن آدم ولو مات لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » كسر عظم الميّت ككسره حيّاً «‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ فإن جوّزنا الأكل من الآدميّ الميّت فلا يجوز أن يأكل منه إلاّ ما يسدّ الرّمق بلا خلاف، حفظاً للحرمتين‏.‏

قال‏:‏ وليس للمضطرّ طبخه وشيّه، بل يأكله نيئاً، لأنّ الضّرورة تندفع بذلك، وفي طبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه، بخلاف سائر الميّتات، فإنّ للمضطرّ أكلها نيئةً ومطبوخةً‏.‏

ترتيب المحرّمات

11 - إذا وجد المضطرّ ميتةً - ونحوها - من محظورات الأطعمة والأشربة ووجد طعاماً أو شراباً للغير فأيّهما يأخذه‏؟‏

ذهب أكثر الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة، وسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم إلى أنّه ليس للمضطرّ تناول طعام الغير، وإنّما له أكل الميتة، لأنّ إباحة الميتة بالنّصّ، وإباحة مال الغير بالاجتهاد، والنّصّ أقوى، ولأنّ حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المسامحة وحقوق الآدميّ مبنيّة على الشّحّ والتّضييق، ولأنّ حقّ الآدميّ تلزمه غرامته وحقّ اللّه لا عوض له‏.‏

وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة في قول وعبد اللّه بن دينار‏:‏ إنّ من وجد طعام الغير لا تباح له الميتة، لأنّه قادر على الطّعام الحلال، فلم يجز له أكل الميتة، كما لو بذله له صاحبه‏.‏ أمّا المالكيّة فيرون تقديم طعام الغير على الميتة ندباً إن لم يخف القطع أو الضّرب أو الأذى وإلاّ قدّم الميتة‏.‏

وروى أصبغ عن ابن القاسم أنّه قال‏:‏ يشرب المضطرّ الدّم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوالّ الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأنّ الخمر يلزم فيها الحدّ فهي أغلظ‏.‏

والمضطرّ إذا كان مُحْرِماً ووجد ميتةً وصيداً حيّاً صاده محرم أو أعان على صيده، فإنّه يقدّم الميتة على الصّيد الحيّ الّذي صاده المحرم أو أعان عليه، بهذا يقول الحنفيّة على المعتمد والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب، والحنابلة‏.‏

وقال الشّافعيّة في قول وبعض الحنفيّة والشّعبيّ‏:‏ إنّه يأكل الصّيد ويفديه، لأنّ الضّرورة تبيحه، ومع القدرة عليه لا تحلّ الميتة لغناه عنها‏.‏

أثر الضّرورة في رفع حرمة الميتة ونحوها

12 - قال شارح أصول البزدويّ‏:‏ اختلف العلماء في حكم أكل الميتة ونحوها في حال الضّرورة، فهل تصير مباحةً، أو تبقى على الحرمة ويرتفع الإثم‏؟‏

فذهب بعضهم‏:‏ إلى أنّها لا تحلّ لكن يرخّص في الفعل إبقاءً للمهجة كما في الإكراه على الكفر، وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولي الشّافعيّ‏.‏

وذهب أكثر أصحابنا - الحنفيّة - إلى أنّ الحرمة ترتفع في هذه الحالة‏.‏

ثمّ ذكر للخلاف فائدتين‏:‏

إحداهما‏:‏ إذا صبر حتّى مات لا يكون آثماً على الأوّل بخلافه على الآخر‏.‏

الثّانية‏:‏ إذا حلف لا يأكل حراماً فتناولها في حال الضّرورة يحنث على الأوّل ولا يحنث على الثّاني‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ رخصة، والملحق الأصوليّ‏)‏‏.‏

تناول المضطرّ الميتة في سفر المعصية

13 - ذهب الشّافعيّة على المذهب والحنابلة والمالكيّة في قول إلى أنّه ليس للمضطرّ في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطّريق لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ إذا خرج يقطع الطّريق فلا رخصة له، فإن تاب وأقلع عن معصيته حلّ له الأكل‏.‏

ويرى الحنفيّة والمالكيّة - في المشهور - والشّافعيّة - في قول - أنّه يترخّص بأكل الميتة للعاصي بسفره‏.‏

وللعلماء خلاف وتفصيل حول استباحة العاصي بسفره‏.‏

رخص السّفر ينظر في‏:‏ ‏(‏سفر‏)‏‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ الاضطرار إلى النّظر واللّمس للتّداوي

14 - يجوز كشف العورة والنّظر إليها لضرورة التّداوي‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يباح للطّبيب النّظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدن المرأة الأجنبيّة من العورة وغيرها فإنّه موضع حاجة‏.‏

قال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ وأمّا عند الحاجة فالنّظر واللّمس مباحان لفصد وحجّامة وعلاج ولو في فرج للحاجة الملجئة إلى ذلك، ولأنّ في التّحريم حينئذ حرجاً، فللرّجل مداواة المرأة وعكسه وليكن ذلك بحضرة محرم أو زوج أو امرأة‏.‏

وللتّفصيل في شروط جواز معالجة الطّبيب امرأةً أجنبيّةً ينظر‏:‏ ‏(‏عورة‏)‏‏.‏

الاضطرار إلى العلاج بالنّجس والمحرّم

ذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة - في وجه - إلى عدم جواز التّداوي بالمحرّم والنّجس لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم «‏.‏

ويرى الحنفيّة جواز الاستشفاء بالحرام عند تيقّن حصول الشّفاء فيه، كتناول الميتة عند المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللّقمة، ولا يجيزون الاستشفاء بالحرام الّذي لا يتيقّن حصول الشّفاء به‏.‏

ويشترط الحنفيّة لجواز التّداوي بالمحرّم تيقّن حصول الشّفاء فيه وعدم وجود دواء غيره‏.‏ وأجاز الشّافعيّة - على المذهب - التّداوي بالنّجاسات غير الخمر، سواء فيه جميع النّجاسات غير المسكر‏.‏

وللتّفصيل في شروط التّداوي بالمحرّم والنّجس وحكم التّداوي به لتعجيل الشّفاء‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ تداوي‏)‏‏.‏

الحالة الثّالثة‏:‏ الاضطرار إلى إتلاف النّفس أو ارتكاب الفاحشة

16 - القتل تحت تأثير الإكراه‏:‏ وتحته صورتان‏:‏

الأولى‏:‏ الاضطرار إلى قتل نفسه، كما تقدّم، ويأتي في الدّفاع عن النّفس، والأخرى‏:‏ الاضطرار إلى قتل غيره وبيانه فيما يلي‏:‏

أجمع العلماء على أنّ من أكره على قتل غيره أنّه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الّذي نزل به، ولا يحلّ له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل اللّه العافية في الدّنيا والآخرة‏.‏

قال الصّاويّ المالكيّ‏:‏ لو قال لك ظالم‏:‏ إن لم تقتل فلاناً أو تقطعه قتلتك، فلا يجوز ذلك ويجب على من قيل له ذلك أن يرضى بقتل نفسه ويصبر‏.‏

وللفقهاء خلاف وتفصيل فيمن يجب عليه القصاص عند وقوع القتل، أو قطع العضو تحت تأثير الإكراه ينظر في‏:‏ ‏(‏إكراه، وقصاص‏)‏‏.‏

القتل لضرورة الدّفاع

إذا صال صائل على إنسان جاز له الدّفع، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء وإنّما اختلفوا في وجوب الدّفع عن النّفس على المصول عليه‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة - في أصحّ القولين - والشّافعيّة والحنابلة - في إحدى الرّوايتين- إلى أنّه يجب على المصول عليه أن يدافع عن نفسه، إلاّ أنّ الشّافعيّة قيّدوا وجوب دفع الصّائل بما إذا كان الصّائل كافراً أو بهيمةً‏.‏

ويرى المالكيّة - في قول - والحنابلة - في الرّواية الثّانية - أنّ المصول عليه لا يجب عليه دفع الصّائل‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ صيال‏)‏‏.‏

الزّنى تحت تأثير الإكراه

يرى جمهور الفقهاء‏:‏ أنّ الزّنى لا يباح ولا يرخّص للرّجل بالإكراه وإن كان تامّاً، ولو فعل يأثم‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إكراه وزنىً‏)‏‏.‏

الحالة الرّابعة‏:‏ الاضطرار إلى أخذ مال الغير وإتلافه

17 - إذا اضطرّ إنسان ولم يجد إلاّ طعاماً لغيره نظر‏:‏ فإن كان صاحبه مضطرّاً إليه فهو أحقّ به، ولم يجز لأحد أخذه منه، لأنّه ساواه في الضّرورة وانفرد بالملك، فأشبه غير حال الضّرورة، وإن أخذه منه فمات لزمه ضمانه، لأنّه قتله بغير حقّ، وإن لم يكن صاحبه مضطرّاً إليه لزمه بذله للمضطرّ، لأنّه يتعلّق به إحياء نفس آدميّ معصوم فلزمه بذلك، كما يلزمه بذل منافعه وإنجاؤه من الغرق والحريق، لأنّ الامتناع عن بذله إعانة على قتل المضطرّ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي اللّه عزّ وجلّ مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه «‏.‏

فإن لم يبذل فللمضطرّ أخذه منه، لأنّه مستحقّ له دون مالكه، فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه، فإن قتل المضطرّ فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر، لأنّه ظالم بقتاله فأشبه الصّائل، إلاّ أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه، لإمكان الوصول إليه دونها‏.‏ وللفقهاء خلاف وتفصيل في أثر الاضطرار في إبطال حقّ الغير ينظر في‏:‏ ‏(‏إتلاف، وضمان‏)‏‏.‏

إتلاف مال الغير لضرورة إنقاذ السّفينة

إذا أشرفت السّفينة على الغرق جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر، ويجب الإلقاء رجاء نجاة الرّاكبين إذا خيف الهلاك، ويجب إلقاء ما لا روح فيه، لتخليص ذي الرّوح، ولا يجوز إلقاء الدّوابّ إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان، وإذا مسّت الحاجة إلى إلقاء الدّوابّ ألقيت لإنقاذ الآدميّين، والعبيد في ذلك كالأحرار، ولا سبيل لطرح الآدميّ بحال ذكراً كان أو أنثى، حرّاً أو عبداً، مسلماً أو كافراً‏.‏

إتلاف مال الغير تحت تأثير الإكراه

من أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك‏.‏

وللفقهاء خلاف وتفصيل فيمن يجب عليه الضّمان في هذه الحالة ينظر في‏:‏ ‏(‏إكراه، وضمان‏)‏‏.‏

الحالة الخامسة‏:‏ الاضطرار إلى قول الباطل

النّطق بالكفر تحت تأثير الإكراه‏:‏

18 - من أكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، وإن صبر حتّى قتل كان شهيداً‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ رخصة ف 13، وإكراه ف 24‏)‏‏.‏

الاضطرار إلى الكذب

يحلّ الكذب في أمور ثبتت بالسّنّة، ففي حديث أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أنّها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ » ليس الكذّاب الّذي يصلح بين النّاس، ويقول خيراً وينمي خيراً «‏.‏

قال ابن شهاب - أحد رواة هذا الحديث -‏:‏ ولم أسمع يرخّص في شيء ممّا يقول النّاس كذب إلاّ في ثلاث‏:‏ الحرب والإصلاح بين النّاس، وحديث الرّجل امرأته وحديث المرأة زوجها‏.‏

قال العزّ بن عبد السّلام‏:‏ والتّحقيق أنّ الكذب يصير مأذوناً فيه ويثاب على المصلحة الّتي تضمّنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح‏.‏

الاضطرار إلى التّقيّة

تجوز التّقيّة عند الاضطرار إليها دفعاً لتلف النّفس بغير وجه حقّ‏.‏

قال السّرخسيّ‏:‏ لا بأس باستعمال التّقيّة وإنّه يرخّص له في ترك ما هو فرض عند خوف التّلف على نفسه‏.‏

وللتّفصيل في مشروعيّة العمل بالتّقيّة‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ تقيّة فقرة 5‏)‏‏.‏

القواعد الفقهيّة النّاظمة لأحكام الضّرورة

19 - وضع الفقهاء مجموعةً من القواعد الفقهيّة لضبط أحكام الضّرورة، وتوضيح معالمها العامّة وتنظيم آثارها، وأهمّ هذه القواعد هي‏:‏

المشقّة تجلب التّيسير

الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ويتخرّج على هذه القاعدة جميع رخص الشّرع وتخفيفاته‏.‏

هذا وقد خرج عن هذه القاعدة ما نصّ عليه وإن كان فيه مشقّة وعمّت به البلوى‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ المشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضع لا نصّ فيه، وأمّا مع النّصّ بخلافه فلا‏.‏

وللتّفصيل في أحكام هذه الأسباب وضوابط المشقّة المؤثّرة في التّخفيف‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ تيسير، فقرة 32 - 41‏)‏‏.‏

إذا ضاق الأمر اتّسع

هذه القاعدة مستخرجة من القاعدة الّتي قبلها وبينهما تقارب في المآل، ومعناها أنّه إذا ظهرت مشقّة في أمر يرخّص فيه ويوسّع‏.‏

ومن فروع هذه القاعدة‏:‏

أ - شهادة النّساء والصّبيان في الحمّامات والمواضع الّتي لا يحضرها الرّجال دفعاً لحرج ضياع الحقوق‏.‏

ب - قبول شهادة القابلة على الولادة ضرورة حفظ الولد ونسبه‏.‏

ج - إباحة خروج المتوفّى عنها زوجها من بيتها أيّام عدّتها إذا اضطرّت للاكتساب‏.‏

الضّرورات تبيح المحظورات

قاعدة أصوليّة مأخوذة من النّصّ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏‏.‏

والاضطرار‏:‏ الحاجة الشّديدة، والمحظور المنهيّ عن فعله، يعني أنّ الممنوع شرعاً يباح عند الضّرورة‏.‏

وهذه القاعدة تتعلّق أصلاً بقاعدة ‏"‏ الضّرر يزال ‏"‏ ومن فروعها‏:‏

جواز أكل الميتة عند المخمصة ونحو ذلك‏.‏

الضّرورات تقدّر بقدرها

معنى هذه القاعدة‏:‏ أنّ كلّ فعل أو ترك جوّز للضّرورة فالتّجويز على قدرها ولا يتجاوز عنها‏.‏

ومن فروعها‏:‏ أنّ الكفّار حال الحرب إذا تترّسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرّمي عليهم لضرورة إقامة فرض الجهاد، لكنّهم يقصدون الكفّار دون الأطفال، وللفقهاء خلاف وتفصيل في وجوب الدّية والكفّارة‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ ديات وكفّارات‏)‏‏.‏

ما جاز لعذر بطل بزواله

هذه القاعدة مكمّلة للقاعدة السّابقة، فالقاعدة المتقدّمة يعمل بها أثناء قيام الضّرورة، وهذه القاعدة تبيّن ما يجب فعله بعد زوال حال الضّرورة، ومعناها أنّ ما جاز فعله بسبب عذر من الأعذار، أو عارض طارئ من العوارض فإنّه تزول مشروعيّته بزوال حال العذر، لأنّ جوازه لمّا كان بسبب العذر فهو خلف عن الأصل المتعذّر، فإذا زال العذر أمكن العمل بالأصل، فلو جاز العمل بالخلف - أيضاً - للزم الجمع بين الخلف والأصل فلا يجوز كما لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لهذه العلّة‏.‏

الاضطرار لا يبطل حقّ الغير

الاضطرار وإن كان في بعض المواضع يقتضي تغيير الحكم من الحرمة إلى الإباحة كأكل الميتة، وفي بعضها التّرخيص في فعله مع بقائه على الحرمة - ككلمة الكفر - إلاّ أنّه على كلّ حال لا يبطل حقّ الغير، وإلاّ لكان من قبيل إزالة الضّرر بالضّرر وهذا غير جائز‏.‏ ويتفرّع عن هذه القاعدة أنّه لو اضطرّ إنسان بسبب الجوع فأكل طعام آخر يضمن قيمته في القيميّات ومثله في المثليّات‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ إتلاف وضمان‏)‏‏.‏

ضَرُوريَّات

التّعريف

1 - الضّروريّات‏:‏ جمع ضروريّ، والضّروريّات عند الأصوليّين هي‏:‏ الأمور الّتي لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النّجاة والنّعيم، والرّجوع بالخسران المبين وهي‏:‏ حفظ الدّين، والنّفس، والعقل، والنّسب، والمال، وهذا التّرتيب بين الضّروريّات من العالي إلى النّازل هو ما جرى عليه في مسلّم الثّبوت وشرحه، وهو - أيضاً - ما جرى عليه الغزاليّ في المستصفى مع استبدال لفظ النّسل بلفظ النّسب‏.‏ ورتّبها الشّاطبيّ ترتيباً آخر فقال‏:‏ مجموع الضّروريّات خمسة وهي‏:‏ حفظ الدّين، والنّفس، والنّسل، والمال، والعقل، فأخّر العقل عن النّسل والمال‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحاجيّات‏:‏

2 - الحاجيّ لغةً‏:‏ مأخوذ من معنى الحاجة وهي‏:‏ الاحتياج، وتطلق على ما يفتقر إليه‏.‏ وهي عند الأصوليّين‏:‏ ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة، ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - على الجملة - الحرج والمشقّة ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقّع في المصالح العامّة‏.‏ والفرق بين الضّروريّات والحاجيّات أنّ الحاجيّات تأتي في المرتبة الثّانية بعد الضّروريّات، فهي لا تصل إلى حدّ الضّرورة‏.‏

ب - التّحسينيّات‏:‏

3 - التّحسينيّات لغةً‏:‏ مأخوذة من مادّة الحسن، والحسن لغةً‏:‏ الجمال، أو هو ضدّ القبح، والتّحسين‏:‏ التّزيين‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليّين‏:‏ هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنّب الأحوال المدنّسات الّتي تأنفها العقول الرّاجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق‏.‏

أو هي‏:‏ ما لا تدعو إليها ضرورة ولا حاجة، ولكن تقع موقع التّحسين والتّيسير، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات‏.‏

وعلى ذلك تكون التّحسينيّات أدنى رتبةً من الحاجيّات، فهي المرتبة الثّالثة بعد الضّروريّات والحاجيّات‏.‏

ج - المصالح المرسلة‏:‏

4 - في اللّغة‏:‏ صلح الشّيء صلوحاً وصلاحاً، خلاف فسد، وفي الأمر مصلحة، أي‏:‏ خير، والجمع‏:‏ المصالح‏.‏

والمصالح المرسلة عند الأصوليّين‏:‏ ما لا يشهد لها أصل من الشّارع لا بالاعتبار ولا بالإلغاء‏.‏

وهي أعمّ من الضّروريّات، لأنّها تشمل الضّروريّات والحاجيّات والتّحسينيّات‏.‏

الأحكام الإجماليّة

أ - المحافظة على الضّروريّات‏:‏

5 - الضّروريّات من الأمور الّتي قصد الشّارع المحافظة عليها، لأنّها لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا‏.‏

قال الشّاطبيّ‏:‏ والحفاظ عليها يكون بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يقيم أركانها ويثبّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود‏.‏ والثّاني‏:‏ ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم‏.‏

فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدّين من جانب الوجود، كالإيمان والنّطق بالشّهادتين، والصّلاة، والزّكاة، والصّيام، والحجّ، وما أشبه ذلك‏.‏

والعادات راجعة إلى حفظ النّفس والعقل من جانب الوجود - أيضاً - كتناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك‏.‏

والمعاملات راجعة إلى حفظ النّسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النّفس والعقل - أيضاً - لكن بواسطة العادات‏.‏

والجنايات ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم‏.‏

وقد سبقت الأمثلة للعبادات والعادات‏.‏

وأمّا المعاملات‏:‏ فما كان راجعاً إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرّقاب أو المنافع أو الأبضاع‏.‏

والجنايات ما كان عائداً على ما تقدّم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والدّيات للنّفس، والحدّ للعقل والنّسل، والقطع والتّضمين للمال‏.‏

ب - رتبة الضّروريّات‏:‏

6 - الضّروريّات أقوى مراتب المصلحة فقد قسّم الغزاليّ المصلحة باعتبار قوّتها في ذاتها إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أ - رتبة الضّروريّات‏.‏

ب - رتبة الحاجيّات‏.‏

ج - رتبة التّحسينيّات‏.‏

ثمّ قال‏:‏ والمقصود بالمصلحة‏:‏ المحافظة على مقصود الشّرع، ومقصود الشّرع من الخلق خمسة‏:‏ وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم‏.‏

هذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضّروريّات فهي أقوى المراتب في المصالح‏.‏ ويلي الضّروريّات في الرّتبة الحاجيّات ثمّ التّحسينيّات‏.‏

ج - الاحتجاج بالضّروريّات‏:‏

7 - الضّروريّات أقوى مراتب المصلحة، وفي الاحتجاج بها خلاف بين الأصوليّين‏.‏

فقال الغزاليّ‏:‏ يجوز أن يؤدّي إليها اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد لها أصل معيّن، ومثال ذلك‏:‏ أنّ الكفّار إذا تترّسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافّة المسلمين، ولو رمينا التّرس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشّريعة، ولو كففنا لسلّطنا الكفّار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثمّ يقتلون الأسارى أيضاً‏.‏

لكن الغزاليّ إنّما يعتبرها بشروط ثلاثة قال‏:‏ وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف‏:‏

أن تكون ضروريّةً قطعيّةً كلّيّةً‏.‏

وهي حجّة عند الإمام مالك، لأنّ اللّه تعالى إنّما بعث الرّسل لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء، فمهما وجدنا مصلحةً غلب على الظّنّ أنّها مطلوبة للشّرع‏.‏

وينظر تفصيل ذلك‏:‏ ‏(‏في الملحق الأصوليّ‏)‏‏.‏

د - الضّروريّات أصل لما سواها من المقاصد‏:‏

8 - المقاصد الضّروريّة في الشّريعة أصل للحاجيّة والتّحسينيّة، فلو فرض اختلال الضّروريّ بإطلاق لاختلّ الحاجيّ والتّحسينيّ بإطلاق، ولا يلزم من اختلال الحاجيّ والتّحسينيّ اختلال الضّروريّ بإطلاق - ومع ذلك فقد يلزم من اختلال الحاجيّ بإطلاق اختلال الضّروريّ بوجه من الوجوه - فالحاجيّ يخدم الضّروريّ، والضّروريّ هو المطلوب لأنّه الأصل‏.‏

وبيان ذلك أنّ مصالح الدّين والدّنيا مبنيّة على المحافظة على الأمور الخمسة المعروفة، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدّنيويّ مبنيّاً عليها حتّى إذا انخرمت لم يبق للدّنيا وجود - أي ما هو خاصّ بالمكلّفين والتّكليف -‏.‏

وكذلك الأمور الأخرويّة لا قيام لها إلاّ بذلك، فلو عدم الدّين عدم ترتّب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلّف لعدم من يتديّن، ولو عدم العقل لارتفع التّديّن، ولو عدم النّسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء، وهذا كلّه معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدّنيا وأنّها زاد للآخرة‏.‏

هـ – اختلال الضّروريّ يلزم منه اختلال الحاجيّ والتّحسينيّ‏:‏

9 – إذا ثبت أنّ الضّروريّ أصل للحاجيّ والتّحسينيّ وأنّهما مبنيّان عليه باعتبارهما وصفين من أوصافه، أو فرعين من فروعه، لزم من اختلاله اختلالهما، لأنّ الأصل إذا اختلّ اختلّ الفرع من باب أولى‏.‏

فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشّريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر، ولو ارتفع أصل القصاص لم يكن اعتبار المماثلة فيه، وهكذا‏.‏

وفي الموضوع تفصيلات تنظر‏:‏ ‏(‏في الملحق الأصوليّ‏.‏‏)‏

ضِفْدع

انظر‏:‏ أطعمة

ضَفَائِر

انظر‏:‏ شعر، غسل

ضِلع

التّعريف

1 - الضّلع - بفتح اللام وسكونها - لغتان بمعنى‏:‏ محنيّة الجنب‏.‏

وهي مؤنّثة وجمعها‏:‏ أضلع وأضالع وأضلاع وضلوع وهي عظام الجنبين‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالضّلع

الجناية على الضّلع

2 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص في كسر العظام - بما فيها الضّلع - لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » لا قصاص في العظم «‏.‏

ولعدم الوثوق بالمماثلة لأنّه لا يعلم موضعه، فلا يؤمن فيه التّعدّي‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جناية على ما دون النّفس ف 31‏)‏‏.‏

ثمّ اختلفوا في موجب كسر الضّلع‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - في الصّحيح - وأحمد - في رواية - إلى أنّ كسر الضّلع ليس فيه شيء مقدّر، وإنّما تجب فيه حكومة العدل، لأنّه كسر عظم في غير الرّأس والوجه، فلم يجب فيه أرش مقدّر، ككسر عظم السّاق‏.‏

وقد قيّد الإمام مالك وجوب حكومة العدل في كسر الضّلع إذا برأ على عثل وإذا برأ على غير عَثَل فلا شيء فيه‏.‏

ويرى الحنابلة - على المذهب - والشّافعيّة في أحد قولين - وهو المذهب القديم عندهم كما قال السّيوطيّ - أنّه يجب في كسر الضّلع جمل، لما روى أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر أنّه قضى في التّرقوة بجمل وفي الضّلع بجمل‏.‏

وللتّفصيل في كيفيّة تقدير حكومة العدل وشروطها ينظر‏:‏ ‏(‏حكومة عدل وجناية على ما دون النّفس‏)‏‏.‏